رجال من تراب-محمد بقوح
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

رجال من تراب

...لماذا يضعون العراقيل والأشواك في طريقي، ويطالبونني بالقفز عليها..؟ بل ما يدعو حقيقة للسخرية هو كونهم يطالبونك بالمزيد من بذل الجهد. وبعدم التسرع في إعمال التفكير، حتى تستطيع تحقيق القفزة النوعية المطلوبة، وتسقط في إحدى الحفر التي أعدوها لك بإتقان، ولأمثالك من الكائنات المفروض عليها أن تخضع للتعليمات والنصح الأمومي إلى يوم الدين. هل هذا معقول..؟ أنت كائن يجب أن تكون مختلفا عن هؤلاء المدمنين على تدخين التعليمات.. تعليماتهم بنشوة. أنت ابن زمنك. جرب.. قل مثلا ولو مرة واحدة كلمة "لا" لأبيك، طبعا إذا كان على خطأ. وما أكثر أخطاء آبائنا. لكن نبحث لهم دائما عن مختلف التبريرات من أجل طمس محتواها الفاسد، وهنا يكمن مربط الفرس.. هم يستمرون في تفريخ الأخطاء، ونحن نستـمر بدورنا في البحث لهم عن التبريرات المناسبة، وكأننا نتواطأ معهم، وضد العالم والإنسان والتاريخ في جريمة خنق الحقيقة حتى الموت.. دون أن نشعر بفعلتنا هذه الشنعاء.. لكن، أنا لست من طينة هؤلاء..

تعبت من كثرة المشي. بسبب حقيبة الأغراض التي أحملها على كتفي الأيسر.. الطريق ما تزال طويلة. فكرت في الجلوس. تحسست الصخرة الملساء بالقرب من الشجرة الوارفة الظل فجلست. نظرت بعيدا. تأكدت أن هذه الأرض في دمي لكن.. لن أقول أحلم أن أطير منها فقط بل شبعت لكثرة ما حلمت. لن يمضي هذا العام حتى أجد نفسي هناك، حيث يجب أن أكون.. سأكسر ثقل هذه الصورة التي كونها علي هؤلاء المحيطين بي. سأخرج من هذا السجن العقيم الذي وجدت نفسي فيه رغما عني.. هم يعتقدون أنني لا أصلح لشيء، ولا يمكن أن أنقذ نفسي من قبضة الاختناق التدريجي، الذي أصبنا به جميعا، هذه العدوى التي جاءتنا من استسلامنا للصمت والخمول والكسل.. العدوى التي هي مثل ديدان الجثة.. سمحنا لها بالوجود والآن ها نحن نطبل لها كي تنتقل إلى مرحلة الاحتفال والرقص على نعشنا... وهذا لن يكون لها أبدا.. والذين يديرون خيوط اللعبة واهمون.. سأنقذ نفسي أولا.. بعدها سأعود لإنقاذ أهلي.. و كذلك إنقاذ هذه الأشجار اليابسة، وهذه الأحجار والأتربة المتراكمة منذ أزمنة بعيدة في بلدتي.. نعم بلدتي وأملأ فمي بهوائها هكذا... ربما استسلمت من جديد لتحديهم ... لكن..

قالت لي أمي ذات يوم أنني أشبه أبي. لهذا سأبقى دوما ألازم سريري المعطوب من إحدى أرجله الأربعة. "كأبيك عندما أنجبك وهو في حالة سكر". قلت لها مازحا: "ومن تريدين يا أمي أن أشبه..؟ ابن الجيران الكباص". آنذاك تحمر وجنتاها فترميني بقطعة من الخشب المحيط بها، على سطح الدار.. أقف آنذاك وأنا أخفي في داخلي هذه الرغبة الدفينة من أجل مقاومة ضربات السكاكين التي تأتيني من جميع الجهات. هو حكم جائر يا أمي.. إنني أفهمها جيدا. فهي لا تريدني أن أشبه أبي.. لهذا قررت أن أضع حدا لهذا الكابوس الذي يرهقها قبل محاولته الآن، وبعد أن كبرت ووعيت، أن يحتويني ويسكنني ليشل إرادتي.. هههه.. هيهات أن ينجح معي. أحس في داخلي بأنني قادر على هزم كل أشكال "الترهات" التي تحاول النيل من إرادتي في الحياة. لابد إذن أن أرحل. لأكون عند حسن ظن أمي... أولا، وعند حسن ظن بلدتي ثانيا، لأحملك يا أمي في سيارة كبيرة وفخمة، وأصول وأجول بها في أزقة بلدتي، وآذانك مشدودة إلى إيقاعات موسيقى وكلمات الحاج بلعيد.. أفضل فنان لديك..

أخذت حجرة صغيرة من الأرض أثار انتباهي لونها الذي يميل إلى زرقة البحر الممزوجة بلون الملح الناصع.
بالقرب من قدمي اليمنى كنت أتابع قافلة كبيرة من النمل. نظام دقيق في السير على الطريق. اقتربت منها أكثر. الكثير من عناصر هذا النمل المحترم يحمل أشياء على جسده. كائن غريب وعجيب في نفس الوقت. يعري معنى الضعف في الإنسان ويعطيه الدرس والمثال في الفعل والعمل من أجل الحياة.. تمنيت في داخلي لو..

امتدت أصابعي بسرعة إلى محفظة حزامي. أخرجت هاتفي النقال. ركبت رقم عبد الحق: البوابة التي يمكنني هذه المرة أن أمر منها إلى عالم ما وراء البحر. فشلت في المرات السابقة، لأن تجربتي في الحياة كانت بسيطة وأقل مما هي عليه الآن. إلى جانب المبلغ المالي الذي كان بحوزتي آنذاك لن يحملني حتى لسفح هذا التل الصخري، عندما يفيض الوادي وتقطع الطريق، لتبدأ معانات جديدة ومن نوع مختلف مع الحصار الذي تفرضه علينا، نحن سكان هذه القرية، الطبيعة القاسية المحيطة بنا..، ليزيد طغيان الطبيعة من وقود نار البشر في أعماقنا..

حاولت من جديد الاتصال بصديقي عبد الحق، الذي أعتز بصداقته، لأعرف رده على أسئلة انتظاري الممتع.. هههه.. هذه المرة هاتفه يرن. إنه سيبشرني بخبر.. الخير..، خبر العام الذي أنتظر منذ زمان.. هاتفه ما يزال يرن. كأنني سمعت صراخ طفل وليد في الجانب الأيمن من حيث أنا قابع. وقفت بدون تردد. تتبعت صوت الصراخ. تبينت بعيدا جماعة من الرجال قادمين. لم أنتظر وصولهم إلي. توجهت إليهم. كانوا خمسة رجال يرتدون كلهم لباسا مدنيا أنيقا. فكرت ماذا عساهم يريدون في هذه الأرض الصخرية الجافة؟ اقتربت منهم أكثر. لم يكونوا سوى قطيع أغنام جائعة، تبحث عن الأعشاب بين قلق الصخور، و هدوء الفراغ القاتل.. هنا.. لم أصدق.. أين ذهب الرجال الذين رأيت..؟ حتى أصداء صوت الطفل الرضيع لم تعد موجودة. ربما الحرارة فعلت ما فعلت برأسي . وصلني من هاتف عبد الحق صوت رجولي، لكن ليس صوت عبدا لحق الذي أنتظره. عندما سألته من يكون أجابني أنه إبراهيم. فعاودت مساءلته:
- ألست عبد الحق.. ققق..؟
- قلت لك إبراهيم.. من تكن أنت؟
- أعتذر.. مكالمة خاطئة...
رغم ذلك لابد لي أن أبحث عن المخرج. أنت أيضا يا عبد... النحس ضدي مثلهم. سوف تصلك أخباري...



 
  محمد بقوح (2008-01-21)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

رجال من تراب-محمد بقوح

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia